الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة؛ مع الدرس السادس من دروس سورة المائدة، ومع الآية الرابعة وهي قوله تعالى:
﴿ يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ(4)﴾
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن:
أولاً أيها الإخوة؛ مِن صفات المؤمن أنه يسأل لأنه أراد أن يطيع الله، هذا قرار أولي لأنه أراد أن يطيع الله، أراد أن يتقرّب إليه، أراد أن يُقبل عليه، وسيلته الطاعة، لذلك الفرق بين المؤمن وبين غير المؤمن؛ غير المؤمن لا يسأل استغنى عن طاعة الله، لأنه كذّب بالحسنى فاستغنى عن طاعة الله.
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ (9)﴾
لماذا استغنى أن يطيع الله؟ لأنه كذّب باليوم الآخر؛ لذلك -أيها الإخوة- يكاد يكون الإيمان باليوم الآخر لا يقل أهمية عن الإيمان بالله، لأن أهل الأرض قاطبة إلا فئة شاذة عطّلت عقولها لم تؤمن به، لأن أهل الأرض قاطبة تؤمن بالله ولكن لو آمنت أن هناك يوماً آخر، وأنه في هذا اليوم سيحاسب كل إنسان بما عمل، وسيكافأ المحسن وسيعاقب المسيء، لا يمكن أن يعصي الإنسان الله -عزَّ وجلَّ-، فلذلك حيثما ورد بنود في القرآن الكريم من أركان الإيمان وجدت الإيمان بالله واليوم الآخر متلازمين، فالقضية تبدأ من هنا؛ أن إنساناً آمن بالله، آمن أن لهذا الكون إلهاً موجوداً واحدًا كاملاً، أسماؤه حسنى وصفاته فضلى، وأن كمال الخلق يدل على كمال التصرف، فلا يعقل أن يكون غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، ووسيم ودميم، أن يكونوا سواء وتنتهي الحياة الدنيا ولا شيء بعد الدنيا، هذا شيء يتناقض مع كمال الله؛ لأن كمال الخلق يدل على كمال التصرف، إذًا هذا الكون يدل على إله عظيم، ومن لوازم عظمة الله -عزَّ وجلَّ- أن يكون هناك يوم تسوّى فيه الحسابات، لأن الإنسان آمن بالله واليوم الآخر فهو يبحث عن الأمر والنهي، تأتي كلمة ﴿يَسْـَٔلُونَكَ﴾ ، فمن لم يسأل ليس مؤمناً باليوم الآخر، والذي يسأل علامة إيمانه باليوم الآخر أنه يسأل، ما حكم الشرع؟ ماذا يرضي الله؟ وقد قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ ۚ فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾
من هم أهل الذكر؟ أهل القرآن الكريم، ومن لوازم أهل الذكر أهل الحديث الشريف أو أهل الفقه؛ لأنك بالكون تعرفه وبالشرع تعبده، كون ينطق بعظمة الله، وشرع هو صراط مستقيم يوصلك إلى الله، ﴿يَسْـَٔلُونَكَ﴾ فسؤالك عن حكم الله في هذا الموضوع دليل إيمانك، وعدم سؤالك دليل عدم إيمانك، هذا الذي لا يبالي أأكل حراماً أم حلالاً؟ أرتكب معصية أم طاعة؟ أكان عمله يرضي الله أم يغضب الله؟ هذا الذي لا يبالي ليس مؤمناً وقد وصفه الله -عزَّ وجلَّ- بأنه استغنى عن طاعة الله، بينما المؤمن محتاج أن يطيع الله -عزَّ وجلَّ- طلباً للسلامة وللسعادة، ﴿يَسْـَٔلُونَكَ﴾ مادام الله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلْأَزْلَٰمِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)﴾
هذه آية الدرس السابق، هؤلاء المؤمنون الحريصون على طاعة الله وسلامتهم من عقاب الله، الطامعون بما عند الله.
ضرورة السؤال والاستعانة بأهل العلم:
يسألونك: ﴿فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، وفي آية ثانية:
﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۚ ٱلرَّحْمَٰنُ فَسْـَٔلْ بِهِۦ خَبِيرًا (59)﴾
ينبغي أن أوضح لكم أن الدين واسع جداً، وأن الإنسان لو أمضى حياته كلها في طلب العلم لحقق مساحة محدودة في مساحة الدين؛ لذلك لا بد من تعاون العلماء فيما بينهم، لا يوجد عالم أحاط بكل علوم الدين، ما من عالم إلا وتفوق في جانب وهو بحاجة إلى أخيه العالم الآخر ليستأنس برأيه، فلذلك هناك من يعرف الله معرفة دقيقة وعميقة ويمكن أن نسمي هؤلاء علماء بالله تعالى، قال: ﴿فَسْـَٔلْ بِهِۦ خَبِيرًا﴾ ، وهناك علماء بالقرآن الكريم، وهناك علماء بالسنة، وهناك علماء بالأحكام الفقهية، وهناك علماء بالسيرة، وهناك علماء بتاريخ التشريع، أبواب الدين واسعة جداً ولا يستطيع واحد أن يحصّلها كلها، لكن كل واحد تفوق في جانب وأخوه تفوق في جانب آخر، فإذا تعاونوا نجحوا وارتقوا عند الله وكبروا في أعين الناس جميعاً، وإذا تنافسوا سقطوا من عين الله -عزَّ وجلَّ-، وسقطوا من عين الأتباع، إذًا﴿فَسْـَٔلْ بِهِۦ خَبِيرًا ﴾ ، إذا القضية متعلقة بالله -عزَّ وجلَّ- فاسأل به خبيرًا، وإذا القضية متعلقة بالأحكام الشرعية: ﴿فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، لكن يسألونك-أيها الإخوة- هذه الآية وردت مثيلاتها في عدد لا بأس به من الآيات الكريمة تزيد عن عشر آيات: ﴿ يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ﴾
﴿ يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍۢ فَلِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ (215)﴾
﴿ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْأٓخِرَةِ ۗ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَٰمَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)﴾
﴿ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾
﴿ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِىَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ ۗ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)﴾
إلا آية واحدة إن قرأتها يقشعر جلدك:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾
أي أنه ليس بينك وبين الله حجاب ولا وسيط، إذا قال العبد: يا رب، وهو راكع، قال الله له: لبيك يا عبدي، وإذا قال العبد: يا رب، وهو ساجد، قال الله له، لبيك يا عبدي، وإذا قال العبد: يا رب، وهو عاصٍ، يقول الله له: لبيك ثم لبيك ثم لبيك؛ أي أنا أنتظرك، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم وشوقي لترك معاصيهم لتقطّعت أوصالهم من حبي ولماتوا شوقاً إلي، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف بالمقبلين؟!
﴿ اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)﴾
آية قرآنية ﴿فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا﴾ ، لمِنْ؟ لفرعون، لمِن قال:
﴿ فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ (24)﴾
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّى صَرْحًا لَّعَلِّىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ (38)﴾
هذا الإنسان ﴿فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا﴾ ، فإذا أخطأ إنسان في المسجد في حُكْم لا يعرفه أيعقل أن تقيم عليه الدنيا ولا تقعدها؟! هناك فرق بين أخلاق الدعوة وأخلاق الجهاد، في الحرب في ساحة المعركة:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَٰهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ (73)﴾
لكن في ساحة الدعوة:
﴿ وَلَا تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُ ۚ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُۥ وَلِىٌّ حَمِيمٌ (34)﴾
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ معنى ذلك أن شروط الدعاء أن تؤمن بالله الإيمان الذي يحملك على طاعته، ومن شروط الدعاء أن تستجيب له بطاعته والائتمار بأمره والانتهاء عما عنه نهى، ومن شروط الدعاء أن تدعوه حقيقة، ومن شروط الدعاء أن تدعوه مخلصاً، إلا أن إنسانين مستثنيان من شروط الدعاء؛ المظلوم يستجيب الله له لا لأهليته ولكن بحكم اسم العدل، والمضطر يستجيب الله له لا لأهليته ولكن باسم الرحمة، باسم الرحمن.
الأصول في المعاملات و العبادات:
﴿يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ﴾ والسؤال مفتاح العلم، أنت تستطيع أن تستعير عقول الرجال بالسؤال، لا تستطيع في أي مجال آخر غير مجال الدين أن تسأل بلا أجرة، لا تستطيع أن تدخل لعيادة طبيب إلا وفي جيبك مبلغ من المال ليغطي أجور المعالجة، كما أنه لا تستطيع الدخول إلى مكتب محامي إلا وفي جيبك أتعاب الدعوى، ولا تستطيع أن تدخل لمحل تجاري إلا ومعك الثمن، إلا إذا دخلت لبيوت الله لك أن تسأل ما شئت ومن دون ثمن لأن العلم مبذول، أنت إذا سألت استعرت عقول الرجال، من علامة المؤمن أنه يسأل ويتحرى ويتأكد ويستوثق لأن دينه غالٍ عليه، وقد ورد في الأثر: (ابن عمر دينك ديْنك إنما هو لحمك ودمك فانظر عمن تأخذ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا)
﴿يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ﴾ ، بالمناسبة -أيها الإخوة- عندنا قاعدتان أُصوليتان: الأصل في الأشياء الإباحة، ولا يحرّم شيء إلا بالدليل، ليس هناك دليل على الإباحة بل هناك دليل على التحريم، إذا قلت: هذا محرّم، يجب أن تأتي بالدليل، أما أكل التفاح لا يحتاج للدليل، وشرب الماء البارد لا يحتاج لدليل؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة ولا يحرم شيء إلا بالدليل، في العبادات الأمر بالعكس الأصل فيها الحظر، ولا تشرّع عبادة إلا بالدليل، أن تخترع صلوات معينة، وأن تخترع عبادات وأذكار معينة، وأن تلزم إخوانك بما لم يلزم رسول الله أصحابه فهذا ممنوع، الأصل في الأشياء الإباحة ولا يحرّم شيء إلا بالدليل، والأصل في العبادات الحظر ولا تشرّع عبادة إلا بالدليل، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولأن الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ فطريقة معالجة الدين لقضايا الحياة كاملة لا تُعدل ولا تُطور، وعدد القضايا التي عالجها الدين تامة تماماً عددياً وكمالاً نوعياً، وأية إضافة على الدين اتهام له بالنقص، وأي حذف مِن الدين اتهام له بالزيادة، ويوم حذفنا مِن الدين فرائض كنا آخر الأمم، استبيحت أراضينا، نُهبت ثرواتنا، قُتل أبناؤنا، لما عطّلنا فريضة من مئتي عام وأضفنا على الدين ما ليس فيه اختصمنا، إن أضفت اختصمت وإن حذفت ضعفت، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فلذلك:
(( ...أما بعدُ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وإنَّ أفضلَ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ أتتْكم الساعةُ بغتةً، بُعِثتُ أنا والساعةُ هكذا، صبحَتْكم الساعةُ ومستْكم، أنا أولى بكلِّ مؤمنٍ من نفسِه، من ترك مالًا فلأهلِه، ومن ترك دَيْنا أو ضَياعًا فإليَّ وعليَّ، وأنا وليُّ المؤمنين ))
[ أخرجه النسائي، وأحمد باختلاف يسير عن جابر بن عبد الله ]
في العبادات لا تشرع عبادة إلا بالدليل، وفي المعاملات الأصل في الأشياء الإباحة: ﴿يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ﴾ فجاء الجواب عاماً: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ﴾ الأشياء التي تطيب بها نفوسكم، هذا ينقلنا إلى أن العلاقة بين الأمر وبين نتيجته علاقة علمية أي علاقة سبب بنتيجة، وأن العلاقة بين النهي وبين نتائجه علاقة علمية أي علاقة سبب بنتيجة، لأن هذا أمر خالق الأكوان وأمر الخبير، لا يوجد أمر رمزي، كل شيء منعك الله منه يبدد سلامتك وسعادتك، وكل شيء أمرك الله به تطيب به نفسك.
هذا الكلام يقودنا إلى المثل التالي: إنك تمشي في الطريق فإذا بلوحة كُتب عليها (حقل ألغام ممنوع التجاوز)، لا شك أن معظم الناس يشعرون بامتنان لواضع هذه اللوحة، لا يرون فيها حداً لحريتهم بل يرون فيها ضماناً لسلامتهم، وأنت حينما تعتقد أن كل شيء نَهاك الله عنه من أجل سلامتك وسعادتك وآخرتك، وأن كل شيء أمرك الله به هو قوام سلامتك وسعادتك هذا هو الفقه الحقيقي؛ أن ترى أن الحسن ما شرّعه الله و أن القبيح ما حرّمه الله، فماذا أحل لكم؟ قل: الطيبات، طعام تطيب نفسك به، لكن طعام يمرضك لا يحلّ لك، كمٌّ يمرضك لا يحل لك ولا تسرف فيه، هناك نوع يفسد جسمك كلحم الخنزير ينبغي ألا تأكله، وهناك كمٌّ من لحم الضأن يفسد صحتك فينبغي ألا تسرف، فهناك شيء محرم نوعاً وهناك شيء منهي عنه كماً، فحينما تعتقد أن الحسن ما حسّنه الشرع والقبيح ما قبّحه الشرع لأنه من عند الخبير أو لأنه من الجهة الصانعة، أنت دون أن تشعر ودون أن تفكر حينما تقتني آلة غالية الثمن، عظيمة النفع، بالغة التعقيد، تحترم هذه الورقة التي جاءت معها وتنظر إليها على أنها من عند الصانع، من الشركة الصانعة، من عند الخبير، فتحرص على ترجمتها والتقيد بتفاصيلها لأنك حريص على سلامة الآلة، وأنت أعقد آلة في الكون ولك صانع حكيم، وهذا الصانع الحكيم له تعليمات التشغيل والصيانة فينبغي أن تتبع التعليمات.
﴿يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ﴾ هذه حالة كانت سائدة من قبل فكان الكلب المُعلَّم، الكلب يُعلَّم، وقد بلغني قبل حين أن تكاليف تعليم الكلب تتجاوز الخمسين ألفاً أحياناً، الكلب المُعلَّم متميز، فقد يُعلَّم الكلب أن يأتي بالصيد دون أن يأكل منه، فالكلب إذا أرسل أو الطائر الصقر ليصطاد وصاحب الكلب سمّى وجاء الكلب بهذا الصيد دون أن يأكل منه فهذا صيد حلال تناوله، قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْتُم﴾ فحتى الكلاب إذا تعلمت لها مكانة، أليس كذلك؟ فالكلب المُعلَّم جاء في القرآن الكريم ﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ﴾ أي الكلاب أو الصقور أو ما شابه ذلك، لها أنياب تجرح، ﴿ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ أي أن هذا الكلب أصبح خبيراً في أخذ هذا الصيد، ﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ﴾
أيها الإخوة:
﴿ ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِىٓ أَخْدَانٍۢ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِى ٱلْأٓخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ (5)﴾
أعاد الله -عزَّ وجلَّ- أنه أحلّ إلينا الطيبات، ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾ أجاز أكثر العلماء أن ذبائحهم حِلّ لكم، لكن المشكلة -أيها الإخوة- أن هؤلاء الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم على أنهم أهل كتاب قد لا تجدهم أحياناً، فالإنسان حينما يكفر بالله -عزَّ وجلَّ- وبكتابه وبنبيه، وينكر وجود الله أصلاً، ولا يتقيد بشيء، هذا ليس من أهل الكتاب، تماماً كما لو أطلعك واحد على أنه مسلم في الهوية وهو ينكر وجود الله -عزَّ وجلَّ- ولا يصلي ولا يصوم ولا يعبأ بما حرمه الله، هل يُعدّ هذا مسلماً؟ لا والله، لذلك -أيها الإخوة- أهل الكتاب الذين آمنوا بسيدنا عيسى، والذين آمنوا بالإنجيل، أما مَنْ يكفر بوجود الله أصلاً، ولا يعبأ بأي منهج أنزله الله، فهذا ليس من أهل الكتاب، هذا تحفظ لا بدّ منه، يقال: لك أن تتزوج كتابية، لكن الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿وَٱلْمُحْصَنَٰتُ﴾ وهذه ليست محصنة، قد لا تجد في العالم الغربي من مئة ألف فتاةٍ فتاةً عذراء، إذًا هي ليست محصنة، فلا بد من التقيد بكلام الله -عزَّ وجلَّ-.
﴿ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ يوجد ملاحظة: طعام أهل الكتاب حِلّ لنا قطعاً، أما طعام الملحد الذي لا يؤمن بالله أصلاً ولا بمنهجه ثانياً، قد يكون هذا الطعام قد تم صعقه وبقي الدم فيه ولم يُذكى، فهناك إشكال في هذا الموضوع، لا أخوض في تفاصيل هذا الموضوع لأن الله -سبحانه وتعالى- تفضل علينا وجعلنا نقيم في بلاد المسلمين فلا مشكلة عندنا، لكن هذه المشكلة كبيرة جداً في بلاد الغرب بالنسبة للمسلمين، الأصل أنه حلال ما لم يثبت أنه صعق ولم يذبح ولم يذكّى إطلاقاً، على كل هناك من يفتي بحِلّه ولو كان قد صُعق، قضية خلافية لا مجال للخوض في تفاصيلها في هذا الدرس.
حكم الزواج من أهل الكتاب:
﴿وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ﴾ من المسلمات طبعاً، ﴿ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ﴾ يجوز الزواج منهن، لكن هناك حكم ورد عند بعض العلماء المعاصرين فيه شيء طيب، الأصل أن الأولاد يتبعون أقوى الأبوين، فإذا كان أقوى الأبوين هي الزوجة وهي ليست مسلمة، وفي الأعمّ الأغلب سيكون أولادها تبعاً لها وسوف ينشؤون على دينها، وفي أية لحظة تأخذهم وتمضي ولا تملك من أمرهم شيئاً، فهناك إشكال في تطبيق هذا الحكم على إطلاقه، لا بدَّ من التحفظ، هذا في الفقه يسمى لسد الذرائع، تزرع العنب حلال مئة في المئة، لكن إذا غلب على يقينك قطعاً أن هذا العنب مآله إلى الخمارة ليكون خمراً، هنا ينشأ حكم طارئ ليس في أصل الحكم، الأصل إباحة لكن إذا كان العنب في هذه المنطقة لا يورد إلا للخمارات ليغدو خمراً ينشأ حكم استثنائي طارئ سداً للذريعة، لا يجوز أن تزرع العنب، ازرع شيئًا آخر، كذلك إذا غلب على اليقين أنك إذا تزوجت كتابية من العالم الغربي فمآل أولادها إلى الكفر أو الإباحية مثلاً، إذا غلب على يقينك هذا فينبغي أن تتريث وتتوقف وتسأل أهل الذكر إن كنت لا تعلم.
﴿ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ﴾ أي المهر، ﴿غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ﴾ السفاح هو الزنا، والإحصان هو الزواج، الإحصان وفق منهج الله، والسفاح خلاف منهج الله، ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِىٓ أَخْدَانٍ﴾ هناك من يقول: صداقة بريئة بين شاب وفتاة، من قال لك: بريئة؟ ليس هناك صداقة بريئة إطلاقًا بين شاب وفتاة، ﴿وَلَا مُتَّخِذِىٓ أَخْدَانٍۢ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِى ٱلْأٓخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ﴾
نعيد الآيات: ﴿ يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ* ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِىٓ أَخْدَانٍۢ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلْإِيمَٰنِ﴾ الإيمان هكذا: من كفر بالإيمان وما ينتج عنه من أمر ونهي، ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِٱلْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ كان عمله سيئاً يستوجب النار، أو لو أن له عملاً في ظاهره جيد ونواياه شركية يفقد العمل قيمته، فالعمل إما أن يفقد قيمته أو صورته، إما أن تكون صورة العمل سيئة أو نية العمل سيئة، ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِٱلْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِى ٱلْأٓخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ ﴾
الملف مدقق